تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 184 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 184

184 : تفسير الصفحة رقم 184 من القرآن الكريم

** ذَلِكَ بِأَنّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىَ قَوْمٍ حَتّىَ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذّبُواْ بآيَاتِ رَبّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَآ آلَ فِرْعَونَ وَكُلّ كَانُواْ ظَالِمِينَ
يخبر تعالى عن تمام عدله وقسطه في حكمه بأنه تعالى لا يغير نعمة أنعمها على أحد, إلا بسبب ذنب ارتكبه, كقوله تعالى: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم, وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له ومالهم من دونه من وال} وقوله {كدأب آل فرعون} أي كصنعه بآل فرعون وأمثالهم, حين كذبوا بآياته, أهلكهم بسبب ذنوبهم وسلبهم تلك النعم التي أسداها إليهم, من جنات وعيون وزروع وكنوز ومقام كريم, ونعمة كانوا فيها فاكهين, وما ظلمهم الله في ذلك بل كانوا هم الظالمين.

** إِنّ شَرّ الدّوَابّ عِندَ اللّهِ الّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * الّذِينَ عَاهَدْتّ مِنْهُمْ ثُمّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلّ مَرّةٍ وَهُمْ لاَ يَتّقُونَ * فَإِمّا تَثْقَفَنّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرّدْ بِهِم مّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلّهُمْ يَذّكّرُونَ
أخبر تعالى: أن شر ما دب على وجه الأرض هم الذين كفروا فهم لا يؤمنون, الذين كلما عاهدوا عهداً نقضوه, وكلما أكدوه بالأيمان نكثوه, {وهم لا يتقون} أي لا يخافون من الله في شيء ارتكبوه من الاَثام, {فإما تثقفنهم في الحرب} أي تغلبهم وتظفر بهم في حرب, {فشرد بهم من خلفهم} أي نكل بهم, قاله ابن عباس والحسن البصري والضحاك والسدي وعطاء الخراساني وابن عيينة, ومعناه غلظ عقوبتهم وأثخنهم قتلاً, ليخاف من سواهم من الأعداء من العرب وغيرهم, ويصيروا لهم عبرة, {لعلهم يذكرون} وقال السدي: يقول: لعلهم يحذرون أن ينكثوا فيصنع بهم مثل ذلك.

** وَإِمّا تَخَافَنّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىَ سَوَآءٍ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الخَائِنِينَ
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وإما تخافن من قوم} قد عاهدتهم {خيانة} أي نقضاً لما بينك وبينهم من المواثيق والعهود, {فانبذ إليهم} أي عهدهم {على سواء}, أي أعلمهم بأنك قد نقضت عهدهم, حتى يبقى علمك وعلمهم بأنك حرب لهم, وهم حرب لك, وأنه لا عهد بينك وبينهم على السواء, أي تستوي أنت وهم في ذلك, قال الراجز:
فاضرب وجوه الغدر للأعداءحتى يجيبوك إلى السواء
وعن الوليد بن مسلم أنه قال في قوله تعالى: {فانبذ إليهم على سواء} أي على مهل, {إن الله لا يحب الخائنين} أي حتى ولو في حق الكفار لا يحبها أيضاً. قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة, عن أبي الفيض عن سليم بن عامر, قال: كان معاوية يسير في أرض الروم, وكان بينه وبينهم أمد, فأراد أن يدنو منهم, فإذا انقضى الأمد غزاهم, فإذا شيخ على دابة يقول: الله أكبر, الله أكبر, وفاء لا غدراً, إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ومن كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلن عقدة ولا يشدها حتى ينقضي أمدها, أو ينبذ إليهم على سواء» قال: فبلغ ذلك معاوية, فرجع, فإذا بالشيخ عمرو بن عنبسة رضي الله عنه, وهذا الحديث رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة, وأخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه, من طرق عن شعبة به, وقال الترمذي: حسن صحيح. وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا محمد بن عبد الله الزبيري, حدثنا إسرائيل, عن عطاء بن السائب, عن أبي البختري عن سلمان, يعني الفارسي رضي الله عنه, أنه انتهى إلى حصن أو مدينة, فقال لأصحابه: دعوني أدعوهم كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم, فقال: إنما كنت رجلاً منكم, فهداني الله عز وجل للإسلام, فإن أسلمتم فلكم ما لنا وعليكم ما علينا, وإن أبيتم فأدوا الجزية وأنتم صاغرون, وإن أبيتم نابذناكم على سواء, {إن الله لا يحب الخائنين} يفعل ذلك بهم ثلاثة أيام, فلما كان اليوم الرابع غدا الناس إليها ففتحوها بعون الله.

** وَلاَ يَحْسَبَنّ الّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُوَاْ إِنّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ * وَأَعِدّواْ لَهُمْ مّا اسْتَطَعْتُمْ مّن قُوّةٍ وَمِن رّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوّ اللّهِ وَعَدُوّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {ولا تحسبن} يا محمد {الذين كفروا سبقو} أي فاتونا, فلا نقدر عليهم بل هم تحت قهر قدرتنا, وفي قبضة مشيئتنا, فلا يعجزوننا, كقوله تعالى: {أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون} أي يظنون, وقوله تعالى: {ولا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير} وقوله تعالى: {لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد} ثم أمر تعالى, بإعداد آلات الحرب لمقاتلتهم حسب الطاقة والإمكان والاستطاعة, فقال: {وأعدوا لهم ما استطعتم} أي مهما أمكنكم {من قوة ومن رباط الخيل} قال الإمام أحمد: حدثنا هارون بن معروف, حدثنا ابن وهب, أخبرني عمرو بن الحارث, عن أبي علي ثمامة بن شفي, أخي عقبة بن عامر, أنه سمع عقبة بن عامر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي» رواه مسلم, عن هارون بن معروف, وأبو داود عن سعيد بن منصور, وابن ماجه عن يونس بن عبد الأعلى, ثلاثتهم عن عبد الله بن وهب به. ولهذا الحديث طرق أخر, عن عقبة بن عامر, منها ما رواه الترمذي من حديث صالح بن كيسان, عن رجل عنه, وروى الإمام أحمد وأهل السنن عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ارموا واركبوا وأن ترموا خير من أن تركبوا».
وقال الإمام مالك عن زيد بن أسلم, عن أبي صالح السمان, عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الخيل لثلاثة, لرجل أجر, ولرجل ستر, وعلى رجل وزر, فأما الذي له أجر, فرجل ربطها في سبيل الله فأطال لها في مرج أو روضة, فما أصابت في طيلها ذلك من المرج أو الروضة, كانت له حسنات ولو أنها قطعت طيلها, فاستنت شرفاً أو شرفين كانت آثارها وأرواثها حسنات له, ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يسقي به, كان ذلك حسنات له, فهي لذلك الرجل أجر, ورجل ربطها تغنياً وتعففاً, ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها فهي له ستر, ورجل ربطها فخراً ورياء ونواء, فهي على ذلك وزر» وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر, فقال «ما أنزل الله عليّ فيها شيئاً إلا هذه الاَية الجامعة الفاذة {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} رواه البخاري وهذا لفظه, ومسلم كلاهما من حديث مالك, وقال الإمام أحمد: حدثنا حجاج, أخبرنا شريك, عن الركين بن الربيع, عن القاسم بن حسان, عن عبد الله بن مسعود, عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال: «الخيل ثلاثة: ففرس للرحمن, وفرس للشيطان, وفرس للإنسان, فأما فرس الرحمن فالذي يربط في سبيل الله, فعلفه وروثه وبوله ـ وذكر ما شاء الله ـ وأما فرس الشيطان, فالذي يقامر أو يراهن عليها, وأما فرس الإنسان, فالفرس يربطها الإنسان يلتمس بطنها, فهي له ستر من الفقر» وقد ذهب أكثر العلماء, إلى أن الرمي أفضل من ركوب الخيل, وذهب الإمام مالك, إلى أن الركوب أفضل من الرمي, وقول الجمهور أقوى للحديث, والله أعلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حجاج وهشام, قالا: حدثنا ليث, حدثني يزيد بن أبي حبيب, عن ابن شماسة, أن معاوية بن خديج, مر على أبي ذر وهو قائم عند فرس له, فسأله ما تعاني من فرسك هذا ؟ فقال: إني أظن أن هذا الفرس قد استجيب له دعوته, قال: وما دعاء بهيمة من البهائم ؟ قال: والذي نفسي بيده, ما من فرس إلا وهو يدعو كل سحر, فيقول: اللهم أنت خولتني عبداً من عبادك, وجعلت رزقي بيده, فاجعلني أحب إليه من أهله وماله وولده. قال: وحدثنا يحيى بن سعيد, عن عبد الحميد بن أبي جعفر, حدثني يزيد بن أبي حبيب عن سويد بن قيس, عن معاوية بن خديج عن أبي ذر رضي الله عنه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه ليس من فرس عربي إلا يؤذن له مع كل فجر, يدعو بدعوتين: يقول: اللهم إنك خولتني من خولتني من بني آدم, فاجعلني من أحب أهله وماله إليه ـ أو ـ أحب أهله وماله إليه», رواه النسائي, عن عمرو بن علي الفلاس, عن يحيى القطان به. وقال أبوالقاسم الطبراني: حدثنا الحسين بن إسحاق التستري, حدثنا هشام بن عمار, حدثنا يحيى بن حمزة, حدثنا المطعم بن المقدام الصنعاني, عن الحسن بن أبي الحسن, أنه قال لابن الحنظلية يعني سهلاً: حدثنا حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة, وأهلها معانون عليها, ومن ربط فرساً في سبيل الله, كانت النفقة عليه كالماد يده بالصدقة لا يقبضها», والأحاديث الواردة في فضل ارتباط الخيل كثيرة. وفي صحيح البخاري, عن عروة بن أبي الجعد البارقي, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة, الأجر والمغنم» وقوله: {ترهبون} أي تخوفون {به عدو الله وعدوكم} أي من الكفار {وآخرين من دونهم} قال مجاهد يعني بني قريظة, وقال السدي: فارس, وقال سفيان الثوري: قال ابن يمان: هم الشياطين التي في الدور, وقد ورد حديث بمثل ذلك.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عتبة أحمد بن الفرج الحمصي, حدثنا أبو حيوة يعني شريح بن يزيد المقري, حدثنا سعيد بن سنان, عن ابن غريب, يعني يزيد بن عبد الله بن غريب, عن أبيه عن جده, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في قول الله تعالى: {وآخرين من دونهم لا تعلمونهم} قال هم الجن, ورواه الطبراني عن إبراهيم بن دحيم, عن أبيه عن محمد بن شعيب عن سنان بن سعيد بن سنان, عن يزيد بن عبد الله بن غريب به, وزاد, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يخبل بيت فيه عتيق من الخيل», وهذا الحديث منكر لا يصح إسناده ولا متنه, وقال مقاتل بن حيان وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هم المنافقون, وهذا أشبه الأقوال, ويشهد له قوله تعالى: {وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم} وقوله {وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون} أي مهما أنفقتم في الجهاد, فإنه يوفى إليكم على التمام والكمال, ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو داود: أن الدرهم يضاعف ثوابه في سبيل الله إلى سبعمائة ضعف, كما تقدم في قوله تعالى: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم} وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن القاسم بن عطية, حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الدشتكي, حدثنا أبي عن أبيه, حدثنا الأشعث بن إسحاق, عن جعفر عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم, أنه كان يأمر أن لا يتصدق إلا على أهل الإسلام, حتى نزلت {وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم} فأمر بالصدقة بعدها, على كل من سألك من كل دين, وهذا أيضاً غريب.